بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
وقد أتينا على جُمَلٍ من هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى المغازى والسير والبعوث والسرايا، والرسائل، والكتب التى كتب بها إلى الملوك ونوابهم.
ونحن نُتْبع ذلك بذكر فصول نافعة فى هَدْيه فى الطب الذى تطبَّب به، ووصفه لغيره، ونبيِّنُ ما فيه من الحِكمة التى تَعْجَزُ عقولُ أكثرِ الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طِبهم إليها كنِسبة طِب العجائز إلى طِبهم، فنقول وبالله المستعان، ومنه نستمد الحَوْل والقوة:
المرض نوعان: مرضُ القلوب، ومرضُ الأبدان. وهما مذكوران فى القرآن.
ومرض القلوب نوعان: مرض شُبهة وشك، ومرض شَهْوة وغَىٍّ، وكلاهما فى القرآن. قال تعالى فى مرض الشُّبهة: {فِى قُلُوبِهِم مََّّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة: 10].
وقال تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً} [المدثر:31].
وقال تعالى فى حَقِّ من دُعى إلى تحكيم القرآن والسُّنَّة، فأبَى وأعرض: {وَإذَا دُعُواْ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48-50]، فهذا مرض الشُّبهات والشكوك.
وأما مرض الشهوات، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ، إنِ
اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، فهذا مرض شَهْوة الزِّنَى.. والله أعلم.
وأمّا مرض الأبدان.. فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وََلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17][النور: 61]. وذكر مرض البدن فى الحج والصومِ والوضوء لسرٍّ بديع يُبيِّن لك عظمة القرآن، والاستغناءَ به لمن فهمه وعَقَله عن سواه، وذلك أن قواعد طِب الأبدان ثلاثة: حِفظُ الصحة، والحِميةُ عن المؤذى، واستفراغُ المواد الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة فى هذه المواضع الثلاثة.
فقال فى آية الصوم: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فأباح الفِطر للمريض لعذر المرض؛ وللمسافر طلباً لحفظ صِحته وقوته لئلا يُذْهِبهَا الصومُ فى السفر لاجتماع شِدَّةِ الحركة، وما يُوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذى يخلف ما تحلَّل؛ فتخورُ القوة وتضعُف، فأباح للمسافر الفِطْرَ حفظاً لصحته وقوته عما يُضعفها.
وقال فى آية الحج: {فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك} [البقرة: 196]، فأباح للمريض، ومَن به أذَىً من رأسه، من قمل، أو حِكَّة، أو غيرهما، أن يحلِق رأسه فى الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التى أوجبت له الأذى فى رأسه باحتقانها تحتَ الشَّعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسامُ، فخرجت تلك
الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يُقاس عليه كُلُّ استفراغ يؤذى انحباسُهُ.
والأشياء التى يؤذى انحباسها ومدافعتها عشرة: الدَّمُ إذا هاج، والمنىُّ إذا تبَّيغ، والبولُ، والغائطُ، والريحُ، والقىءُ، والعطاسُ، والنومُ، والجوعُ، والعطشُ. وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسُه داء من الأدواء بحسبه.
وقد نبَّه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخارُ المحتقِن فى الرأس على استفراغ ما هو أصعبُ منه؛ كما هى طريقةُ القرآن التنبيهُ بالأدنى على الأعلى.
وأما الحِمية.. فقال تعالى فى آية الوضوء: {وَإن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43][المائدة: 6]، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حِميةً له أن يُصيبَ جسدَه ما يُؤذيه، وهذا تنبيهٌ على الحِمية عن كل مؤذٍ له من داخل أو خارج، فقد أرشد سُبحانه عِباده إلى أُصول الطب، ومجامعِ قواعده، ونحن نذكرُ هَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك، ونبيِّنُ أنَّ هَدْيه فيه أكمل هَدْىٍ.
فأمَّا طبُّ القلوب.. فمسلَّم إلى الرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاحَ القلوب أن تكون عارِفة بربِّها، وفاطرِها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مُؤثِرةً لمرضاته ومحابِّه، متجنِّبةً لمَنَاهيه ومَسَاخطه، ولا صحة لها ولا حياةَ ألبتةَ إلا بذلك، ولا سبيلَ إلى تلقِّيه إلا من جهة الرُّسل، وما يُظن من حصول صِحَّة القلب بدون اتِّباعهم، فغلط ممن يَظُنُّ ذلك، وإنما ذلك حياةُ نفسه البهيمية الشهوانية، وصِحَّتها وقُوَّتها، وحياةُ قلبه وصحته،
وقوته عن ذلك بمعزل، ومَن لم يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمِسٌ فى بحار الظلمات.
فصل
وأمَّا طبُّ الأبدان.. فإنه نوعان:
نوعٌ قد فطر الله عليه الحيوانَ ناطقَه وبهيمَه؛ فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب، كطب الجوع، والعطش، والبرد، والتعب بأضدادها وما يُزيلها.
والثانى.. ما يحتاج إلى فكر وتأمل، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة فى المزاج، بحيثُ يخرج بها عن الاعتدال، إما إلى حرارة، أو بُرودة، أو يبوسة، أو رطوبة، أو ما يتركب من اثنين منها، وهى نوعان: إما مادية، وإما كيفية، أعنى إما أن يكون بانصِبَابِ مادة، أو بحدوث كيفية، والفرقُ بينهما أنَّ أمراضَ الكيفية تكون بعد زوال المواد التى أوجبتها، فتزولُ موادها، ويبقى أثرُها كيفية فى المزاج.
وأمراض المادة أسبابها معها تمدُّها، وإذا كان سببُ المرض معه، فالنظر فى السبب ينبغى أن يقع أولاً، ثم فى المرض ثانياً، ثم فى الدواء ثالثاً. أو الأمراض الآلية وهى التى تُخرِجُ العضو عن هيئته، إما فى شكل، أو تجويفٍ، أو مجرىً، أو خشونةٍ، أو ملاسةٍ، أو عددٍ، أو عظمٍ، أو وضعٍ، فإن هذه الأعضاء إذا تألَّفت وكان منها البدن سمى تألُّفها اتصالاً، والخروجُ عن الاعتدال فيه يسمى تفرقَ الاتصال، أو الأمراضِ العامة التى تعم المتشابهة والآلية.
والأمراضُ المتشابهة: هى التى يخرُج بها المزاجُ عن الاعتدال، وهذا الخروجُ يسمى مرضاً بعد أن يَضُرَّ بالفعل إضراراً محسوساً.
وهى على ثمانية أضرب: أربعة بسيطة، وأربعة مركَّبة، فالبسيطةُ: البارد، والحار، والرَّطب، واليابس. والمركَّبةُ: الحارّ الرَّطب، والحار اليابس، والبارد الرَّطب، والبارد اليابس، وهى إما أن تكون بانصباب مادة، أو بغير انصباب مادة، وإن لم يضر المرض بالفعل يُسمى خروجاً عن الاعتدال صحة.
وللبدن ثلاثةُ أحوال: حال طبيعية، وحال خارجة عن الطبيعية، وحال متوسطة بين الأمرين. فالأولى: بها يكون البدن صحيحاً، والثانية: بها يكون مريضاً. والحال الثالثة: هى متوسطة بين الحالتين، فإن الضد لا ينتقل إلى ضدِّه إلا بمتوسط، وسببُ خروج البدن عن طبيعته، إمَّا من داخله، لأنه مركَّب من الحار والبارد، والرطب واليابس، وإما من خارج، فلأن ما يلقاه قد يكونُ موافقاً، وقد يكون غيرَ موافق، والضررُ الذى يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال، وقد يكون مِن فساد العضو؛ وقد يكون من ضعف فى القُوَى، أو الأرواح الحاملة لها، ويرجع ذلك إلى زيادةِ ما الاعتدالُ فى عدم زيادته، أو نقصانُ ما الاعتدالُ فى عدم
نقصانه، أو تفرق ما الاعتدال فى اتصاله، أو اتصال ما الاعتدال فى تفرقه، أو امتداد ما الاعتدال فى انقباضه؛ أو خروج ذى وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله.
فالطبيب: هو الذى يفرق ما يضر بالإنسان جمعه، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه، أو ينقص منه ما يضره زيادته، أو يزيد فيه ما يضره نقصه، فيجلب الصحة المفقودة، أو يحفظها بالشكل والشبه؛ ويدفع العلة الموجودة بالضد
والنقيض، ويخرجها، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية، وسترى هذا كله فى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم شافيا كافيا بحول الله وقوته، وفضله ومعونته
فصل
فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوى فى نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن من هديه ولا هدى أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التى تسمى "أقرباذين"، بل كان غالب أدويتهم بالمفردات، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه، أو يكسر سورته، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك، وأهل البوادى قاطبة، وإنما عنى بالمركبات الروم واليونانيون، وأكثر طب الهند بالمفردات
وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوى بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب.
قالوا: وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية، لم يحاول دفعه بالأدوية.قالوا: ولا ينبغى للطبيب أن يولع بسقى الأدوية، فإن الدواء إذا لم يجد فى البدن داء يحلله، أو وجد داء لا يوافقه، أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه، أو كيفيته، تشبث بالصحة، وعبث بها، وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبا، وهم أحد فرق الطب الثلاث.
والتحقيق فى ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية، فالأمة والطائفة التى غالب أغذيتها المفردات، أمراضها قليلة جدا، وطبها بالمفردات،
وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة، وسبب ذلك أن أمراضهم فى
الغالب مركبة، فالأدوية المركبة أنفع لها، وأمراض أهل البوادى والصحارى مفردة، فيكفى فى مداواتها الأدوية المفردة. فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية.
ونحن نقول: إن ههنا أمرا آخر، نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول: هو قياس. ومنهم من يقول: هو تجربة. ومنهم من يقول: هو إلهامات، ومنامات، وحدس صائب. ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج، فتلغ فى الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض، وقد عشيت أبصارها تأتى إلى ورق الرازيانج، فتمر عيونها عليها. وكما عهد من الطير الذى يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر فى مبادئ الطب.
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحى الذى يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحى كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ههنا من الأدوية التى تشفى من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لا يصل
إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه.
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها، ولكن الأسباب متنوعة، فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التى يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر
لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجابا، وأكثفهم نفسا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السبب الذى به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التى رقى بها، فقام حتى كأن ما به قلبة.
فهذان نوعان من الطب النبوى، نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومنا القاصرة، ومعارفنا المتلاشية جدا، وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهاب.
فصل
روى مسلم فى "صحيحه": من حديث أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله عز وجل ".
وفى "الصحيحين": عن عطاء، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ".
وفى "مسند الإمام أحمد": من حديث زياد بن علاقة عن أسامة ابن شريك، قال: " كنت عند النبى صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى ؟ فقال:
"نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد"، قالوا: ما هو ؟ قال: "الهرم ".
وفى لفظ: " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من
علمه وجهله من جهله".
وفى "المسند": من حديث ابن مسعود يرفعه: " إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله ".
وفى "المسند" و"السنن": عن أبى خزامة، قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال: "هى من قدر الله ".
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله"لكل داء دواء"، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التى لا يمكن لطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلا، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله، ولهذا علق النبى صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شىء من المخلوقات إلا له ضد، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده، فعلق النبى صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء فى الكيفية، أو زاد فى الكمية على ما ينبغى، نقله إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصرا، ومتى لم يقع المداوى على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له، أو القوة عاجزة عن حمله، أو ثم مانع يمنع من تأثيره، لم يحصل البرء لعدم المصادفة،
ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد، وهذا أحسن المحملين فى الحديث.
والثانى: أن يكون من العام المراد به الخاص، لا سيما والداخل فى اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه، وهذا يستعمل فى كل لسان، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء، فلا يدخل فى هذا الأدواء التى لا تقبل الدواء،
وهذا كقوله تعالى فى الريح التى سلطها على قوم عاد: {تدمر كل شىء بأمر ربها} [الأحقاف: 25] أى: كل شىء يقبل التدمير، ومن شأن الريح أن تدمره، ونظائره كثيرة.
ومن تأمل خلق الأضداد فى هذا العالم، ومقاومة بعضها لبعض، ودفع بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، تبين له كمال قدرة الرب تعالى، وحكمته، وإتقانه ما صنعه، وتفرده بالربوبية، والوحدانية، والقهر، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه، كما أنه الغنى بذاته، وكل ما سواه محتاج بذاته.
وفى الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوى، وأنه لا ينافى التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح فى نفس التوكل، كما يقدح فى الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى فى التوكل، فإن تركها عجزا ينافى التوكل الذى حقيقته اعتماد القلب على الله فى حصول ما ينفع العبد فى دينه ودنياه، ودفع ما يضره فى دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب؛ وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا.
وفيها رد على من أنكر التداوى، وقال: إن كان الشفاء قد قدر،
فالتداوى لا يفيد، وإن لم يكن قد قدر، فكذلك. وأيضا، فإن المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يدفع ولا يرد، وهذا السؤال هو الذى أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما أفاضل الصحابة، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا، وقد أجابهم النبى صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى، فقال: هذه الأدوية والرقى والتقى هى من قدر الله، فما خرج شىء عن قدره، بل يرد قدره بقدره، وهذا الرد من قدره. فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما، وهذا كرد قدر الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد، وكل من قدر الله: الدافع، والمدفوع، والدفع.
ويقال لمورد هذا السؤال: هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التى تجلب بها منفعة، أو تدفع بها مضرة، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا، لم يكن بد من
وقوعهما، وإن لم تقدر لم يكن سبيل إلى وقوعهما، وفى ذلك خراب الدين والدنيا، وفساد العالم، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق، معاند له، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه، كالمشركين الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} [الأنعام: 148]، و {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولا آباؤنا} [النحل: 35]، فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل.
وجواب هذا السائل أن يقال: بقى قسم ثالث لم تذكره، وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب؛ فإن أتيت بالسبب حصل المسبب، وإلا فلا.
فإن قال: إن كان قدر لى السبب، فعلته، وإن لم يقدره لى لم أتمكن من فعله.
قيل: فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك، وولدك، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به، ونهيته عنه فخالفك ؟، فإن قبلته، فلا تلم من عصاك، وأخذ مالك، وقذف عرضك، وضيع حقوقك، وإن لم
تقبله، فكيف يكون مقبولا منك فى دفع حقوق الله عليك.. وقد روى فى أثر إسرائيلى: "أن إبراهيم الخليل قال: يا رب؛ ممن الداء ؟ قال: منى. قال: فممن الدواء ؟ قال: منى. قال: فما بال الطبيب؟ قال:رجل أرسل الدواء على يديه"
وفى قوله صلى الله عليه وسلم: " لكل داء دواء "، تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله، تعلق قلبه بروح الرجاء، وبردت عنده حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح، قويت القوى التى هى حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته.وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه. وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب
شفاء بضده، فإن علمه صاحب الداء واستعمله، وصادف داء قلبه، أبرأه بإذن الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع لم ينته بعد
قريبا ان شاء الله
الجزء 2