بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي ونعم الوكيل
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قال الشيخ الإمام العالم أبو الحسن علي بن إسماعيل بن علي بن أبي بشر الأشعري البصري رحمه الله:
1- الحمد لله الواحد الأحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد، والمنفرد بالتمجيد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، ليس له مثل ولا نديد، وهو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، جل عن اتخاذ الصواحب والأولاد، وتقدس عن ملابسة الأجناس والأرجاس، ليست له عثرة تقال، ولا حد يضرب له مثال، لم يزل (2/
بصفاته أولا قديرا، ولا يزال عالما خبيرا، استوفى الأشياء علمه، ونفذت فيها إرادته، فلم تعزب عليه خفيات الأمور، ولم تغيره سوالف صروف الدهور، ولم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب، ولا مسه لغوب ولا نصب، خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذل لعظمته المتكبرون، واستكان لعز ربوبيته المتعظمون، وانقطع دون الرسوخ في علمه العالمون، وذلت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوى الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع، واستقرت الأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت على حدودها البحار، وهو الله الواحد القهار .
2- فنحمده كما حمد نفسه، وكما هو أهله ومستحقه، وكما حمده الحامدون من جميع خلقه، ونستعينه استعانة من فوض الأمر (2/ 9) إليه، وأقر أنه لا منجى ولا ملجأ إلا إليه، ونستغفره استغفار مقر بذنبه، معترف بخطيئته .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بوحدانيته، وإخلاصا لربوبيته، وأنه العالم بما تظن الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وما تخفيه النفوس، وما تجن البحار، وما تواريه الأسراب، (وما تفيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار) ، لا توارى عنه كلمة، ولا تغيب عنه غائبة، (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) من الآية (59) .
ويعلم ما يعمل العاملون وما ينقلب إليه المنقلبون .
3 - ونستهديه بالهدى، ونسأله التوفيق لمجانبة الردى .
4 - ونشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، ونبيه وأمينه وصفيه، أرسله إلى خلقه بالنور الساطع، والسراج اللامع، والحجج الظاهرة، والبراهين والآيات الباهرة، والأعاجيب القاهرة، فبلّغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، حتى تمت كلمة الله عز وجل، وظهر أمره، وانقاد الناس إلى الحق خاضعين، حتى أتاه اليقين، لا وانيا ولا مقصرا، (2/ 10) فصلوات الله عليه من قائد إلى هدى مبين، وعلى أهل بيته الطيبين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين .
عرَّفنا الله به الشرائع والأحكام، والحلال والحرام، وبيَّن لنا به شريعة الإسلام، حتى انجلت عنا طخياء الظلام، وانحسرت عنا به الشبهات، وانكشفت عنا به الغيابات، وظهرت لنا به البينات .
وجاءنا بـ (كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد) من الآية (41 -42)
جمع فيه علم الأولين والآخرين، وأكمل به الفرائض والدين، فهو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، فمن تمسك به نجا، ومن خالفه ضل وغوى، وفي الجهل تردى، وحـثـنا الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) من الآية (7) ، (2/ 11) وقال عز وجل: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) من الآية (63) ، وقال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) من الآية (83) ، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) من الآية (59) ، يقول: إلى كتاب الله وسنة رسوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يـوحى) ، وقال تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي) من الآية (15) ، (2/ 12) وقال: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) من الآية (51) فأمرهم أن يسمعوا قوله، ويطيعوا أمره، ويحذروا مخالفته، وقال: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) من الآية (92) فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته، ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه كما أمرهم بالعمل بكتابه .
5 - فنبذ كثير ممن غلبت عليهم شقوته، واستحوذ عليهم الشيطان سنن نبي الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، ومالوا إلى أسلاف لهم قلدوهم دينهم، ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن نبي الله عليه الصلاة والسلام، ودفعوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على الله، (قد ضلوا وما كانوا مهتدين) من الآية (14) .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، تغر أهلها وتخدع سكَّانها، (2/ 13) قال الله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) الآية من الآية (45) .
من كان فيها في حيـرة أعقبته بعدها عبرة، ومن أعطته من سرائها بطنا أعقبته من ضرائها ظهرا، غرارة غرور ما فيها، فانية فَانٍ ما فيها، كما بقوله تعالى: (كل من عليها فان) (26) ، فاعملوا رحمكم الله للحياة الدائمة، ولخلود الأبد، فإن الدنيا تنقضي على أهلها، وتبقى الأعمال قلائد في رقاب أهلها .
واعلموا أنكم ميتون، ثم إنكم من بعد موتكم إلى ربكم راجعون، (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) من الآية (31) .
فكونوا بطاعة ربكم عاملين، وعما نهاكم منتهين . (2/ 14)
فصل في قول أهل الزيغ والبدع:
أما بعد: فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل به الله سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين .
وخالفوا روايات الصحابة رضي الله عنهم عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله عز وجل بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار . (2/ 15)
وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين، ودفعوا الروايات في ذلك عن السلف المتقدمين .
وجحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعـون رضي الله عنهم أجمعين .
ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين؛ الذين قالوا: (إن هذا إلا قول البشر) (25) .
وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر، نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين:
أحدهما الخير، والآخر يخلق الشر .
وزعمت القدرية أن الله تعالى يخلق الخير، والشيطان يخلق الشر .
وزعموا أن الله تعالى يشاء ما لا يكون، ويكون مالا يشاء، خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وردا لقول الله تعالى (2/ 16) : (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) من الآية (30)
فأخبر تعالى أنا لا نشاء شيئا إلا وقد شاء الله أن نشاءه .
ولقوله: (ولو شاء الله ما اقتتلوا) من الآية (253) ، ولقوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) من الآية (13) ، ولقوله تعالى: (فعال لما يريد) من الآية (107) ، ولقوله تعالى مخبرا عن نبيه شعيب صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علما) من الآية (89) .
ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا أقاويلهم .
وزعموا أن للخير والشر خالقين، كما زعمت المجوس ذلك، وأنه يكون من الشرور ما لا يشاء الله كما قالت المجوس .
وأنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم من دون الله عز (2/ 17) وجل، ردا لقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) (188) ، وإعراضا عن القرآن، وعما أجمع عليه أهل الإسلام .
وزعموا أنهم منفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغنى عن الله عز وجل، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله عز وجل بالقدرة عليه، كما أثبت المجوس لعنهم الله للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوا لله عز وجل، فكانوا مجوس هذه الأمة؛ إذ دانوا بديانة المجوس، وتمسكوا بأقاويلهم ومالوا إلى أضاليلهم .
وقنطوا الناس من رحمة الله، وآيسوهم من روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها، خلافا لقول الله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) من الآية (48) .
وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها، خلافا لما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امْتَحَشُوا فيها (2/ 18) وصاروا حمما) .
ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله عز وجل: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (27)
وأنكروا أن له يدان مع قوله سبحانه: (لما خلقت بيدي) من الآية (75) .
وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله سبحانه: (تجري بأعيننا) من الآية (14) ، وقوله: (ولتصنع على عيني) (39) .
وأنكروا أن يكون له سبحانه علم مع قوله: (أنزله بعلمه) من الآية (166) .
وأنكروا أن يكون له قوة مع قوله سبحانه: (ذو القوة المتين) من الآية (58) .
ونفوا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الله (2/ 19) عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا) وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك جميع أهل البدع من الجهمية والمرجئة والحرورية، أهل الزيغ فيما ابتدعوا وخالفوا الكتاب والسنة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم أجمعين، وأجمعت عليه الأمة كفعل المعتزلة والقدرية وأنا ذاكر ذلك بابا بابا، وشيئا شيئا إن شاء الله تعالى وبه المعونة . (2/ 20)
فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة:
فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافعة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون .
قيل له:
قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي (2/ 21) أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيع الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم .
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق .
وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور .
وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن الممارسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش، وفوق كل شيء، إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد . (2/ 22)
وأن له سبحانه وجها بلا كيف، كما قال: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (27) .
وأن له سبحانه يدين بلا كيف، كما قال سبحانه: (خلقت بيدي) من الآية (75) ، وكما قال: (بل يداه مبسوطتان) من الآية (64) .
وأن له سبحانه عينين بلا كيف، كما قال سبحانه: (تجري بأعيننا) من الآية (14) .
وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا .
وأن لله علما كما قال: (أنزله بعلمه) من الآية (166) ، وكما قال: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) من الآية (11) .
ونثبت لله السمع والبصر، ولا ننفى ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج . (2/ 23)
ونثبت أن لله قوة، كما قال: (أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) من الآية (15) .
ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه سبحانه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن، كما قال: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (40) .
وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل، وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، ولا يستغني عن الله، ولا يقدر على الخروج من علم الله عز وجل .
وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدرة، كما قال سبحانه: (والله خلقكم وما تعملون) (96) ، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وهم يخلقون، (2/ 24) كما قال: (هل من خالق غير الله) من الآية (3) ، وكما قال: (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) من الآية (20 /16) ، وكما قال سبحانه: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) (17 /16) ، وكما قال: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) (35 /52) ، وهذا في كتاب الله كثير .
وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر لهم، وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين .
وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى (2/ 25) يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين، كما علم وخذلهم وطبع على قلوبهم .
وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا،
وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بإذن الله، كما قال عز وجل: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) (188 /7) .
ونلجئ أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه سبحانه وتعالى .
ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر .
وندين بأن الله يُرى في الآخرة بالأبصار، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال (2/ 26) سبحانه: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (15 /83) ، وإن موسى صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا .
وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج، وزعمت أنهم كافرون .
ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحلا لها، غير معتقد لتحريمها كان كافرا .
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا .
وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب بين أصبعيـن من أصابعه، وأنه سبحانه يضع السماوات على أصبع، والأرضين على (2/ 27) أصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف .
وندين بأن لا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين، أجارنا الله منها بشفاعة سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونقول: إن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف، ويحاسب المؤمنين .
وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . (2/ 28)
وندين بحب السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم، ونتولاهم أجمعين .
ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وأن الله سبحانه وتعالى أعز به الدين، وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون بالإمامة، كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضى الله عنه، وأن الذين قتلوه قتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافتهم خلافة النبوة (2/ 29) .
ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكف عما شجر بينهم .
وندين بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون، مهديون فضلاء، لا يوازنهم في الفضل غيرهم .
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل عن النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل، هل من مستغفر) ، وسائر ما نقلوه و أثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل .
ونعوِّل فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله (2/ 30) ما لم يأذن لنا، ولا نقول على الله مالا نعلم .
ونقول: إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة، كما قال سبحانه: (وجاء ربك والملك صفا صفا) (22 /89) .
وأن الله مقرب من عباده كيف شاء بلا كيف، كما قال تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) من الآية (16 /50) ، وكما قال سبحانه: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) (8 - 9 / 53) .
ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد، وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر، كما روى أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهم كان يصلي خلف الحجاج . (2/ 31)
وأن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر، خلافا لقول من أنكر ذلك .
ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة .
وندين بإنكار الخروج بالسيف، وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال -أعاذنا الله من فتنته - كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير عليهما الصلاة والسلام، ومساءلتهما المدفونين في القبور .
ونصدق بحديث المعراج، وتصحيح كثير من الرؤيا في المنام، ونقر أن لذلك تفسيرا .
ونرى الصدقة على موتى المسلمين، والدعاء لهم، ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك .
ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا، وأن السحر كائن موجود في الدنيا . (2/ 32)
وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة، برهم وفاجرهم، وتوارثهم .
ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات وقتل فبأجله مات وقتل .
وأن الأرزاق من قبل الله سبحانه، يرزقها عباده حلالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس الإنسان، ويشككه ويخبطه، خلافا للمعتزلة والجهمية، كما قال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) من الآية (275 /2) ، وكما قال: (من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) (4 - 6 /114) . (2/ 34)
ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم .
وقولنا في أطفال المشركين أن الله تعالى يؤجج لهم في الآخرة نارا، ثم يقول لهم اقتحموها، كما جاءت بذلك الرواية .
وندين الله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين .
ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء .
وسنحتج لما ذكرناه من قولنا، وما بقى منه مما لم نذكره بابا بابا، وشيئا شيئا إن شاء الله عز وجل . (2/ 35)
الباب الأول الكلام في إثبات رؤية الله سبحانه بالأبصار في الآخرة
قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة) (22 /75) يعني مشرقة، (إلى ربها ناظرة) (23 /75) يعني رائية، وليس يخلو النظر من وجوه نحن ذاكروها:
إما أن يكون الله سبحانه عنى نظر الاعتبار، كقوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) (17 /88) .
أو يكون عنى نظر الانتظار، كقوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) من الآية (49 /36)
أو يكون عنى نظر التعطف، كقوله تعالى (2/ 36) : (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) من الآية (77 /3) .
أو يكون عنى نظر الرؤية .
فلا يجوز أن يكون الله عز وجل عنى نظر التفكير والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار .
ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار؛ لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه، كما إذا ذكر أهل اللسان نظر القلب فقالوا: " انظر في هذا الأمر بقلبك "، لم يكن معناه نظر العينين، وكذلك إذا ذكر النظر مع الوجه لم يكن معناه نظر الانتظار؛ الذي يكون للقلب، وأيضا فإن نظر الانتظار لا يكون في الجنة؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، وأهل الجنة في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم .
وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يكونوا منتظرين؛ لأنهم كلما خطر ببالهم شيء أتوا به مع خطوره ببالهم، (2/ 37)
وإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز أن يكون الله عز وجل أراد نظر التعطف؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم .
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر، وهو أن معنى قوله: (إلى ربها ناظرة) أنها رائية ترى ربها عز وجل .
ومما يبطل قول المعتزلة: أن الله عز وجل أراد بقوله: (إلى ربها ناظرة) نظر الانتظار، أنه قال: (إلى ربها ناظرة) ونظر الانتظار لا يكون مقرونا بقوله: (إلى) ؛ لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار " إلى "، ألا ترى أن الله تعالى لما قال: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) من الآية (49 /36) لم يقل " إلى "؛ إذ كان معناه الانتظار .
وقال عز وجل مخبرا عن بلقيس: (2/ 38) (فناظرة بم يرجع المرسلون) من الآية (35 /27) ، فلما أرادت الانتظار لم تقل " إلى " .
وقال امرؤ القيس:
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
فلما أراد الانتظار لم يقل " إلى "، فلما قال سبحانه (2/ 39) : (إلى ربها ناظرة) (23 /75) علمنا أنه لم يرد الانتظار، وإنما أراد نظر الرؤية .
ولما قرن الله عز وجل النظر بذكر الوجه؛ أراد نظر العينين اللتين في الوجه، كما قال: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) (144 /2) ، فذكر الوجه، وإنما أراد تقلب عينيه نحو السماء ينظر نزول الملك عليه، يصرف الله تعالى له عن قبلة بيت المقدس إلى القبلة .
فإن قيل: لم قلتم: إن قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) إنما أراد إلى ثواب ربها ناظرة ؟ (2/ 40)
قيل له: ثواب الله غيره، والله سبحانه وتعالى قال: (إلى ربها ناظرة) (23 /75) ولم يقل: إلى غيره ناظرة .
والقرآن العزيز على ظاهره، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة، وإلا فهو على ظاهره .
ألا ترى أن الله عز وجل لما قال: صلوا لي واعبدوني، لم يجز أن يقول قائل: إنه أراد غيره، ويزيل الكلام عن ظاهره؛ فلذلك لما قال: (إلى ربها ناظرة) لم يجز لنا أن نزيل القرآن عن ظاهره بغير حجة .
ثم يقال للمعتزلة: إن جاز لكم أن تزعموا أن قول الله تعالى: (إلى ربها ناظرة) إنما أراد به أنها إلى غيره ناظرة، فلم لا جاز لغيركم أن يقول: إن قول الله سبحانه وتعالى (2/ 41) : (لا تدركه الأبصار) (103 /6) أراد بها لا تدرك غيره، ولم يرد أنها لا تدركه ؟ وهذا مما لا يقدرون على الفرق فيه .
ودليل آخر: ومما يدل على أن الله تعالى يرى بالأبصار قول موسى صلى الله عليه وسلم: (رب أرني أنظر إليك) من الآية (143 /7) ولا يجوز أن يكون موسى صلوات الله عليه وسلامه - وقد ألبسه الله جلباب النبيين، وعصمه بما عصم به المرسلين - قد سأل ربه ما يستحيل عليه، فإذا لم يجز ذلك على موسى صلى الله عليه وسلم علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا، وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى .
ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا تعالى كما زعمت المعتزلة، ولم يعلم ذلك موسى صلى الله عليه وسلم وعلموه هم لكانوا على (2/ 42) قولهم أعلم بالله من موسى صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا يدعيه مسلم .
فإن قال قائل: ألستم تعلمون حكم الله في الظهار اليوم، ولم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك قبل أن ينزل ؟
قيل له: لم يكن يعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم ذلك قبل أن يلزم الله العباد حكم الظهار، فلما ألزمهم الحكم به أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم قبلهم، ثم أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم عباد الله ذلك، ولم يأت عليه وقت لزمه حكمه فلم يعلم صلى الله عليه وسلم، وأنتم زعمتم أن موسى صلى الله عليه وسلم وقت لزمه علمه وعلمتموه أنتم الآن لزمكم بجهلكم (2/ 43) أنكم بما لزمكم العلم به الآن أعلم من موسى صلى الله عليه وسلم بما لزمه العلم به، وهذا خروج عن دين المسلمين .
ودليل آخر: مما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار قوله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم: (فإن استقر مكانه فسوف تراني) من الآية (143 /7)
فلما كان الله تعالى قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا؛ كان قادرا على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الله تعالى قادر أن يُري عباده نفسه، وأنه جائز رؤيته .
فإن قال قائل: فلِم لا قلتم إن قول الله تعالى: (فإن استقر مكانه فسوف تراني) من الآية (143 /7) تبعيد للرؤية ؟ (2/ 44)
قيل له: لو أراد الله عز وجل تبعيد الرؤية لقرن الكلام بما يستحيل وقوعه، ولم يقرنه بما يجوز وقوعه، فلما قرنه باستقرار الجبل وذلك أمر مقدور لله سبحانه وتعالى دل ذلك على أنه جائز أن يرى الله تعالى .
ألا ترى أن الخنساء لما أرادت تبعيد صلحها لمن كان حربا لأخيها قرنت الكلام بأمر مستحيل فقالت: (2/ 45)
ولا أصالح قوما كنت حربهم حتى تعود بياضا حلكة القارى
والله تعالى إنما خاطب العرب بلغتها، وما نجده مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها .
فلما قرن الرؤية بأمر مقدور جائز علمنا أن رؤية الله بالأبصار جائزة غير مستحيلة .
دليل آخر: قال الله عز وجل: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) (16 /10) ، قال أهل التأويل: النظر إلى الله عز وجل، ولم يُنعم الله تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه ورؤيتهم له .
وقال تعالى: (ولدينا مزيد) من الآية (35 /50) قيل: النظر إلى الله عز وجل .
وقال تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) من الآية (44 /33) ، (2/ 46) وإذا لقيه المؤمنون رأوه .
وقال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (15 /83) فحجبهم عن رؤيته، ولا يحجب عنها المؤمنين . (2/ 47)
فصل
فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) من الآية (103 /6) ؟
قيل له: يحتمل أن يكون لا تدركه في الدنيا، وتدركه في الآخرة؛ لأن رؤية الله تعالى أفضل اللذات، وأفضل اللذات تكون في أفضل الدارين .
ويحتمل أن يكون الله تعالى أراد بقوله: (لا تدركه الأبصار) من الآية (103 /6) يعني: لا تدركه أبصار الكافرين المكذبين، وذلك أن كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلما قال في آية: إن الوجوه تنظر إليه يوم القيامة، وقال في آية أخرى: إن الأبصار لا تدركه، علمنا أنه إنما أراد أبصار الكافرين لا تدركه . (2/ 48)
مسألة والجواب عنها:
فإن قال قائل: قد استكبر الله تعالى سؤال السائلين له أن يُرى بالأبصار، فقال: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أرنا الله جهرة) من الآية (153 /4)
فيقال لهم: إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله عز وجل على طريق الإنكار لنبوة موسى صلى الله عليه وسلم، وترك الإيمان به حتى يروا الله؛ لأنهم قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) فلما سألوه الرؤية على طريق ترك الإيمان بموسى صلى الله عليه وسلم حتى يريهم الله نفسه؛ استعظم الله سؤالهم من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليهم، كما استعظم سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلا، ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتى ينزل عليهم من السماء كتابا .
دليل آخر (2/ 49) :
ومما يدل على إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار رواية الجماعات من الجهات المختلفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضارون في رؤيته) والرؤية إذا أطلقت إطلاقا ومثلت برؤية العيان لم يكن معناها إلا رؤية العيان، ورويت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق مختلفة عديدة، عدة رواتها أكثر من عدة خبر الرجم، ومن عدة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) ، ومن عدة رواة المسح على الخفين، ومن عدة رواة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها) ، وإذا كان الرجم وما ذكرناه سننا عند المعتزلة كانت الرؤية (2/ 50) أولى أن تكون سنة؛ لكثرة رواتها ونقلتها، كذا يرويها خلف عن سلف .
والحديث (أنَّى أراه) لا حجة فيه؛ لأنه عندما سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤية الله عز وجل في الدنيا، وقال له: هل رأيت ربك ؟
فقال: (نورٌ أنى أراه) ؟ لأن العين لا تدرك في الدنيا الأنوار المخلوقة على حقائقها؛ لأن الإنسان لو حدق ينظر إلى عين الشمس فأدام النظر إلى عينها لذهب أكثر نور بصره، فإذا كان الله سبحانه حكم في الدنيا بأن لا تقوم العين بالنظر إلى عين الشمس فأحرى أن لا يثبت البصر للنظر إلى الله تعالى في الدنيا، إلا أن يقويه الله تعالى، فرؤية الله تعالى في الدنيا قد اختلف فيها . (2/ 51)
وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل تراه العيون في الآخرة، وما روى عن أحد منهم أن الله تعالى لا تراه العيون في الآخرة، فلما كانوا على هذا مجتمعين، وبه قائلين، وإن كانوا في رؤيته تعالى في الدنيا مختلفين، ثبتت في الآخرة إجماعا، وإن كانت في الدنيا مختلفا فيها .
ونحن إنما قصدنا إلى إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، على أن هذه الرواية على المعتزلة لا لهم؛ لأنهم ينكرون أن الله نور في الحقيقة .
فإذا احتجوا بخبر هم له تاركون وعنه منحرفون، كانوا محجوجين .
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية الله تعالى بالأبصار؛ أنه ليس موجود إلا وجائز أن بريناه الله عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما (2/ 53) كان الله عز وجل موجودا مثبتا، كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل، وإنما أراد من نفى رؤية الله عز وجل بالأبصار التعطيل، فلما لم يمكنهم أن يظهروا التعطيل صراحا أظهروا ما يؤول بهم إلى التعطيل والجحود، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية الله سبحانه بالأبصار أن الله تعالى يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائيا فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه، وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لم يعلم نفسه لا يعلم الأشياء، فلما كان الله تعالى عالما بالأشياء كان عالما بنفسه، فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، ولما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه، كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها، وقد قال تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى) من الآية (46 /20) ، فأخبر أنه يسمع كلا منهما ويراهما، ومن زعم أن الله عز وجل لا يجوز أن يُرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل رائيا ولا عالما ولا قادرا؛ لأن العالم والقادر الرائي جائز أن يُرى .
مسألة:
فإن قال قائل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ترون ربكم) يعني تعلمون ربكم اضطرارا .
قيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه هذا على سبيل البشارة، فقال: (فكيف بكم إذا رأيتم الله سبحانه) ، ولا يجوز أن يبشرهم بأمر يشركهم فيه مع الكفار، على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2/ 54) : (ترون ربكم) وليس يعني رؤية دون رؤية، بل ذلك عام في رؤية العين ورؤية القلب .
دليل آخر:
إن المسلمين اتفقوا على أن الجنة فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من العيش السليم، والنعيم المقيم، وليس نعيم في الجنة أفضل من رؤية الله تعالى بالأبصار .
وأكثر مَن عَبَدَ اللهَ تعالى عَبَدَه للنظر إلى وجهه الكريم - أرانا الله إياه بفضله - فإذا لم يكن بعد رؤية الله عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانت رؤية نبي الله أفضل لذات الجنة كانت رؤية الله عز وجل أفضل من رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان ذلك كذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسلين، وملائكته (2/ 55) المقربين، وجماعة المؤمنين، والصديقين النظر إلى وجهه الكريم، وذلك أن الرؤية لا تؤثر في المرئي؛ لأن رؤية الرائي تقوم به، فإذا كان هذا هكذا، وكانت الرؤية غير مؤثرة في المرئي لم توجب تشبيها ولا انقلابا عن حقيقة، ولم يستحل على الله عز وجل أن يَري عباده المؤمنين نفسه في جنانه .
مسألة في الرؤية:
احتجت المعتزلة في أن الله عز وجل لا يُرى بالأبصار بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) من الآية (103 /6) ، قالوا: فلما عطف الله عز وجل بقوله: (وهو يدرك الأبصار) على قوله (لا تدركه الأبصار) ، وكان قوله: (وهو يدرك الأبصار) على العموم أنه يدركها في الدنيا والآخرة، وأنه يراها في الدنيا والآخرة، كان قوله (2/ 56) : (لا تدركه الأبصار) دليلا على أنه لا تراه الأبصار في الدنيا والآخرة، وكان في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر .
قيل لهم: فيجب إذا كان عموم القولين واحدا، وكانت الأبصار أبصار العيون وأبصار القلوب؛ لأن الله تعالى قال: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (46 /22) ، وقال: (أولي الأيدي والأبصار) (45 /38) أي فهي بالأبصار، فأراد أبصار القلوب وهي التي يفضل بها المؤمنون الكافرين، ويقول أهل اللغة: فلان بصير بصناعته، يريدون بصر العلم، ويقولون: قد أبصرته بقلبي، كما يقولون قد أبصرته بعيني، فإذا كان البصر بصر العين (2/ 57) وبصر القلب ثم أوجبوا علينا أن يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر، وجب عليهم بحجتهم أن الله تعالى لا يُدرك بأبصار العيون ولا بأبصار القلوب؛ لأن قوله: (لا تدركه الأبصار) في العموم كقوله: (وهو يدرك الأبصار) وإذا لم يكن عندهم هكذا فقد وجب أن يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) أخص من قوله: (وهو يدرك الأبصار) وانتقض احتجاجهم .
وقيل لهم: إنكم زعمتم أنه لو كان قوله: (لا تدركه الأبصار) خاصا في وقت دون وقت لكان قوله: (وهو يدرك الأبصار) خاصا في وقت دون وقت (2/ 58) ، وكان قوله: (ليس كمثله شيء) من الآية (11 /42) ، وقوله: (لا تأخذه سِنَة ولا نوم) من الآية (255 /2) ، وقوله: (لا يظلم الناس شيئا) من الآية (44 /10) في وقت دون وقت، فإن جعلتم قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) من الآية (103 /6) خاصا رجع احتجاجكم عليكم، وقيل لكم: إذا كان قوله: (لا تدركه الأبصار) خاصا ولم يجب خصوص هذه الآيات فلم أنكرتم أن يكون قوله عز وجل: (لا تدركه الأبصار) إنما أراد في الدنيا دون الآخرة ؟ وكما أن قوله: (لا تدركه الأبصار) أراد بعض الأبصار دون بعض، ولا يوجب ذلك تخصيص هذه الآيات التي عارضتمونا بها . (2/ 59)
فإن قالوا: قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) يوجب أن لا يدرك بها في الدنيا والآخرة، وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا، ونبصره بها، ولا ندركه بها .
قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون لا تدركه بإبصار العيون لا يوجب إذا لم ندركه بها أن لا نراه، فرؤيتنا له بالعيون وإبصارنا له بها ليس بإدراك له بها، كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك له بها .
فإن قالوا: رؤية البصر هي إدراك البصر .
قيل لهم: ما الفرق بينكم وبين من قال: إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته، فإذا كان علم القلب بالله عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا إدراك فما أنكرتم أن يكون رؤية العيون وإبصارها لله عز وجل ليس بإحاطة ولا إدراك .
مسألة:
ويقال لهم: إذا كان قول الله سبحانه: (لا تدركه الأبصار) في العموم (2/ 60) كقوله: (وهو يدرك الأبصار) ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر، فخبرونا أليس الأبصار والعيون لا تدركه رؤية ولا لمسا ولا ذوقا ولا على وجه من الوجوه ؟
فمن قولهم: نعم، فيقال لهم: أخبرونا عن قوله تعالى: (وهو يدرك الأبصار)
أتزعمون أنه يدركها لمسا وذوقا بأن يلمسها ؟ فمن قولهم: لا .
فيقال لهم: فقد انتقض قولكم: إن قوله: (وهو يدرك الأبصار) في العموم كقوله: (لا تدركه الأبصار) .
مسألة:
إذا قال قائل منهم: إن البصر في الحقيقة هو بصر العين لا بصر القلب .قيل له: (2/ 61) ولِم زعمت هذا وقد سمى أهل اللغة بصر القلب بصرا، كما سموا بصر العين بصرا، وإن جاز لك ما قلته جاز لغيركم أن يزعم أن البصر في الحقيقة هو بصر القلب دون العين، وإذا لم نجز هذا فقد وجب أن البصر بصر العين وبصر القلب .
مسألة:
ويقال لهم: حدثونا عن قول الله عز وجل: (وهو يدرك الأبصار) ما معناه ؟
فإن قالوا: معنى (يدرك الأبصار) أنه يعلمها .
قيل لهم: وإذا كان أحد الكلامين معطوفا على الآخر، وكان قوله تعالى: (وهو يدرك الأبصار) معناه يعلمها، فقد وجب أن يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) لا تعلمه، وهذا نفي للعلم لا لرؤية الأبصار .
فإن قالوا: معنى قوله تعالى: (وهو يدرك الأبصار) أنه يراها رؤية ليس معناها العلم . قيل لهم (2/ 62) : فالأبصار التي في العيون يجوز أن ترى ؟
فإن قالوا: نعم، نقضوا قولهم: إنا لا نرى بالبصر إلا من جنس ما نرى الساعة، فإن جاز أن يرى الله وكل ما ليس من جنس المرئيات وهو الإبصار الذي في العين، فلِم لا يجوز أن يرى نفسه وإن لم يكن من جنس المرئيات ؟ ولِم لا يجوز أن يرينا نفسه وإن لم يكن من جنس المرئيات ؟
ويقال لهم: حدثونا إذا رأينا شيئا فبصرنا يراه أو إنما يراه الرائي دون البصر ؟
فمن قولهم: إنه محال أن يرى البصر الذي في العين .
فيقال لهم: الآية تنفي أن تراه الأبصار، ولا تنفي أن يراه المبصرون .
وإنما قال الله: (لا تدركه الأبصار) فهذا يدل على أن المبصرين لا يرونه على ظاهر الآية الشريفة . (2/ 63)
الباب الثاني الكلام في أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق
إن سأل سائل عن الدليل على أن القرآن كلام الله غير مخلوق .
قيل له الدليل على ذلك قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) من الآية (25 /30) وأمر الله كلامه، فلما أمرهما بالقيام فقامتا لا يهويان ؟ كان قيامهما بأمره .
وقال عز وجل: (ألا له الخلق والأمر) من الآية (54 /7) ، فالخلق جميع ما خلق داخل فيه؛ لأن الكلام إذا كان لفظه عاما فحقيقته أنه عام، ولا يجوز لنا أن نزيل الكلام عن حقيقته بغير حجة ولا برهان، فلما قال (2/ 64) : (ألا له الخلق) كان هذا في جميع الخلق، ولما قال: (والأمر) ذكر أمرا غير جميع الخلق، فدل ما وصفنا على أن أمر الله غير مخلوق .
فإن قال قائل: أليس قد قال الله تعالى في كتابه: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل) من الآية (98 /2) .
قيل له: نحن نخص القرآن بالإجماع وبالدليل، فلما ذكر الله عز وجل نفسه وملائكته ولم يدخل في ذكر الملائكة جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة، ثم ذكرهما بعد ذلك كأنه قال: الملائكة إلا جبريل وميكائيل، ثم ذكرهم بعد ذكر الملائكة فقال: وجبريل وميكائيل .
ولما قال: (ألا له الخلق والأمر) من الآية (54 /7) ، ولم يخص قوله الخلق دليل، كان قوله ألا له الخلق في جميع (2/ 65) الخلق، ثم قال بعد ذكره الخلق " والأمر " فأبان الأمر من الخلق، وأمرُ الله كلامه، وهذا يوجب أن كلام الله غير مخلوق .
وقال سبحانه: (لله الأمر من قبل ومن بعد) من الآية (4 /30) يعني من قبل أن يخلق الخلق ومن بعد ذلك، وهذا يوجب أن الأمر غير مخلوق .
دليل آخر:
ومما يدل من كتاب الله على أن كلامه غير مخلوق؛ قوله سبحانه: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (40 /16) فلو كان القرآن مخلوقا لوجب أن يكون مقولا له: (كن فيكون) .
ولو كان الله عز وجل قائلا للقول: " كن " لكان للقول قولا، وهذا يوجب أحد أمرين:
إما أن يؤول الأمر إلى أن قوله تعالى غير مخلوق .
أو يكون كل قول واقع بقول لا إلى غاية، وذلك محال، وإذا استحال ذلك صح وثبت أن لله عز وجل قولا غير مخلوق . (2/ 66)
سؤال:
فإن قال قائل: معنى قول الله: (أن يقول له كن فيكون) إنما يكون فيكون .
قيل: الظاهر أن يقول له، ولا يجوز أن يكون قول الله للأشياء كلها كوني هو الأشياء؛ لأن هذا يوجب أن تكون الأشياء كلها كلاما لله عز وجل، ومن قال ذلك أعظم الفرية؛ لأنه يلزمه أن يكون كل شيء في العالم من إنسان وفرس وحمار وغير ذلك كلام الله، وفي هذا ما فيه .
فلما استحال ذلك؛ صح أن قول الله للأشياء كوني غيرها، وإذا كان غير المخلوقات فقد خرج كلام الله عز وجل عن أن يكون مخلوقا، ويلزم من يثبت كلام الله مخلوقا أن يثبت الله غير متكلم ولا قائل، وذلك فاسد، كما يفسد أن يكون علم الله مخلوقا، وأن يكون الله غير عالم .
فلما كان الله عز وجل لم يزل عالما؛ إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخلاف العلم موصوفا، استحال أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفا؛ لأن خلاف الكلام الذي لا يكون معه كلام سكوت أو آفة، كما أن خلاف العلم الذي لا يكون معه علم جهل أو شك أو آفة، ويستحيل أن يوصف ربنا (2/ 67) جل وعلا بخلاف العلم .
وكذلك يستحيل أن يوصف بخلاف الكلام من السكوت والآفات، فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلما، كما وجب أن يكون لم يزل عالما .
دليل آخر:
وقال الله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) من الآية (109 /18) ، فلو كانت البحار مدادا للكتبة لنفدت البحار وتكسرت الأقلام ولم يلحق الفناء كلمات ربي، كما لا يلحق الفناء علم الله تعالى، ومن فني كلامه لحقته الآفات وجرى عليه السكوت، فلما لم يجز ذلك على ربنا سبحانه صح أنه لم يزل متكلما؛ لأنه لو لم يكن متكلما وجب السكوت والآفات، تعالى ربنا عن قول الجهمية علوا كبيرا . (2/ 68)
فصل
وزعمت الجهمية - كما زعمت النصارى - أن كلمة الله تعالى حواها بطن مريم رضي الله عنها، وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن كلام الله مخلوق حل في شجرة، وكانت الشجرة حاوية له؛ فلزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة، ووجب عليهم أن مخلوقا من المخلوقين كلم موسى صلى الله عليه وسلم، وأن الشجرة قالت: يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني .
فلو كان كلام الله مخلوقا في شجرة لكان المخلوق قال: يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، وقد قال تعالى: (ولكن حق القول مني لأملأنّ جهنم من الجنة والناس (2/ 69) أجمعين) (13 /32) وكلام الله من الله تعالى، فلا يجوز أن يكون كلامه الذي هو منه مخلوقا في شجرة مخلوقة، كما لا يجوز أن يكون علمه الذي هو منه مخلوقا في غيره، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
مسألة:
ويقال لهم: كما لا يجوز أن يخلق الله إرادته في بعض المخلوقات، كذلك لا يجوز أن يخلق كلامه في بعض المخلوقات، ولو كانت إرادة الله مخلوقة في بعض المخلوقات لكان ذلك المخلوق هو المريد بها، وذلك يستحيل، وكذلك يستحيل أن يخلق الله كلامه في مخلوق؛ لأن هذا يوجب أن ذلك المخلوق متكلم به، ويستحيل أن يكون كلام الله كلاما للمخلوق .
دليل آخر:
ومما يبطل قولهم إن الله قال مخبرا عن المشركين أنهم قالوا: (إن هذا إلا قول البشر) (25 /74) يعني القرآن (2/ 70) .
فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قولا للبشر، وهذا ما أنكره الله على المشركين .
وأيضا فلو لم يكن الله متكلما حتى خلق الخلق ثم تكلم بعد ذلك لكانت الأشياء قد كانت لا عن أمره ولا عن قوله، ولم يكن قائلا لها كوني .
وهذا رد للقرآن، والخروج عما عليه جمهور أهل الإسلام . (2/ 71)
فصل
واعلموا - رحمكم الله - أن قول الجهمية: " إن كلام الله مخلوق "، يلزمهم به أن يكون الله تعالى لم يزل كالأصنام التي لا تنطق ولا تتكلم، لو كان لم يزل غير متكلم؛ لأن الله تعالى يخبر عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه لما قالوا له: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) من الآية (62 /21) (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) (63 /21) ، فاحتج عليهم بأن الأصنام إذا لم تكن ناطقة متكلمة لم تكن آلهة، وأن الإله لا يكون غير ناطق ولا متكلم، فلما كانت الأصنام التي لا يستحيل أن يحييها الله وينطقها لا تكون آلهة فكيف يجوز أن يكون من يستحيل عليه الكلام في قدمه إلها ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . (2/ 72)
وإذا لم يجز أن يكون الله سبحانه وتعالى في قدمه بمرتبة دون مرتبة الأصنام التي لا تنطق؛ فقد وجب أن يكون الله لم يزل متكلما .
دليل آخر:
وقد قال الله تعالى مخبرا عن نفسه أنه يقول: (لمن الملك اليوم) من الآية (16 /40) وجاءت الرواية أنه يقول هذا القول ولا يرد عليه أحد شيئا، فيقول: (لله الواحد القهار) من الآية (16 /40) ، فإذا كان الله قائلا مع فناء الأشياء؛ إذ لا إنسان ولا ملك ولا حي ولا جان ولا شجر ولا مدر، فقد صح أن كلام الله خارج عن الخلق؛ لأنه يوجد ولا شيء من المخلوقات موجود .
دليل آخر:
وقد قال الله تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) (164 /40) ، والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره، مخلوقا في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم . (2/ 73)
دليل آخر:
وقال الله تعالى: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد